الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ إن الله لم يكلم موسى تكليما، فقال له آخر: بل كلمه تكليما، فقال: إن قلتَ كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال: إن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر، فهل هو كما قال أوْ لا؟ فأجاب: الحمد لله، أما من قال: إن الله لم يكلم مـوسى تكليمًا، فهذا إن كان لم يسمع القرآن فإنه يُعَرَّف أن هذا نص القرآن، فإن أنكره بعد ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتِل، ولا يقبل منه إن كان كلامه بعد أن يجحد نص القرآن، بل لو قال: إن معنى كلامي: أنه خلق صوتًا في الهواء فأسمعه موسى كان كلامه ـ أيضًا ـ كفرًا، وهو قول الجهمية الذين كفرهم السلف وقالوا: يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا، لكن من كان مؤمنا بالله ورسوله مطلقًا ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب، فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر؛ إذ كثير من الناس / يخطئ فيما يتأوله من القرآن ويجهل كثيرًا مما يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمة، والكفر لا يكون إلا بعد البيان. والأئمة الذين أمروا بقتل مثل هؤلاء الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة ويقولون: القرآن مخلوق ونحو ذلك، قيل: إنهم أمروا بقتلهم لكفرهم، وقيل: لأنهم إذا دعوا الناس إلى بدعتهم أضلوا الناس، فقتلوا لأجل الفساد في الأرض، وحفظا لدين الناس أن يضلوهم. وبالجملة، فقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الجهمية من شر طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثير عن الثنتين والسبعين فرقة. ومن الجهمية: المتفلسفة والمعتزلة الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق، وإن الله إنما كلم موسى بكلام مخلوق خلقه في الهواء، وإنه لا يرى في الآخرة. وإنه ليس مباينا لخلقه، وأمثال هذه المقالات التي تستلزم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه. وأما قول الجهمي: إن قلتُ كلمه، فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال: إن الله كلم موسى بحرف وصوت، فهو كافر. فيقال لهذا الملحد: أنت تقول: إنه كلمه بحرف وصوت / لكن تقول بحرف وصوت خلقه في الهواء وتقول: إنه لا يجوز أن تقوم به الحروف والأصوات لأنها لا تقوم إلا بمتحيز، والبارئ ليس بمتحيز، ومن قال: إنه متحيز، فقد كفر. ومن المعلوم أن من جحد ما نطق به الكتاب والسنة كان أولى بالكفر ممن أقر بما جاء به الكتاب والسنة. وإن قال الجاحد لنص الكتاب والسنة: إن العقل معه، قال له الموافق للنصوص: بل العقل معي، وهو موافق للكتاب والسنة، فهذا يقول: إن معه السمع والعقل،وذاك إنما يحتج لقوله بما يدعيه من العقل الذي يبين منازعه فساده، ولو قدر أن العقل معه. والكفر هو من الأحكام الشرعية، وليس كل من خالف شيئًا علم بنظر العقل يكون كافرًا، ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفرًا في الشريعة. وأما من خالف ما علم أن الرسول جاء به، فهو كافر بلا نزاع، وذلك أنه ليس في الكتاب والسنة ولا في قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، الإخبارُ عن الله بأنه متحيز، أو أنه ليس بمتحيز، ولا في الكتاب والسنة أن من قال هذا وهذا يكفر. وهذا اللفظ مبتدع، والكفر لا يتعلق بمجرد أسماء مبتدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة، بل يستفسر هذا القائل إذا قال: إن الله متحيز أو ليس بمتحيز؛ فإن قال: أعني بقولي: إنه متحيز: / أنه دخل في المخلوقات، وأن المخلوقات قد حازته وأحاطت به فهذا باطل. وإن قال: أعني به أنه منحاز عن المخلوقات مباين لها، فهذا حق. وكذلك قوله: ليس بمتحيز. إن أراد أن المخلوق لا يحوز الخالق، فقد أصاب. وإن قال: إن الخالق لا يباين المخلوق وينفصل عنه، فقد أخطأ. وإذا عرف ذلك، فالناس في الجواب عن حجته الداحضة ـ وهي قوله: [لو قلت: إنه كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت والحرف والصوت محدث]ـ ثلاثة أصناف: صنف منعوه المقدمة الأولى، وصنف منعوه المقدمة الثانية، وصنف لم يمنعوه المقدمتين، بل استفسروه، و بينوا أن ذلك لا يمنع أن يكون الله كلم موسى تكليمًا. فالصنف الأول: أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ومن اتبعهما، قالوا: لا نسلم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، بل الكلام معنى قائم بذات المتكلم، والحروف والأصوات عبارة عنه، وذلك المعنى القائم بذات الله ـ تعالى ـ يتضمن الأمر بكل ما أمر به، والخبر عن كل ما أخبر عنه، إن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وقالوا: إنه اسم الكلام حقيقة، فيكون اسم الكلام مشتركا أو مجازًا في كلام الخالق، وحقيقة في كلام المخلوق. / والصنف الثاني: سلموا لهم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، ومنعوهم المقدمة الثانية، وهو أن الحرف والصوت لا يكون إلا محدثًا. وصنف قالوا: إن المحدث كالحادث، سواء كان قائمًا بنفسه أو بغيره، وهو يتكلم بكلام لا يكون قديمًا، وهو بحرف وصوت، وهذا قول من يقول: القرآن قديم، وهو بحرف وصوت،كأبي الحسن بن سالم وأتباعه السالمية وطوائف ممن اتبعه، وقال هؤلاء في الحرف والصوت نظير ما قاله الذين قبلهم في المعاني. وقالوا: كلام لا بحرف ولا صوت لا يعقل، ومعنى يكون أمرًا ونهيًا وخبرًا ممتنع في صريح العقل، ومن ادعى أن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وإنما اختلفت العبارات الدالة عليه ـ فقوله معلوم الفساد بالاضطرار عقلا وشرعًا، وإخراج الحروف عن مسمى الكلام مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات، وإن جاز أن يقال: إن الحروف والأصوات المخلوقة في غير كلام الله حقيقة، أمكن حينئذ أن يكون كلم موسى بكلام مخلوق في غيره. وقالوا لإخوانهم الأولين: إذا قلتم: إن الكلام هو مجرد المعنى، / وقد خلق عبارة بيان... فإن قلتم: إن تلك العبارة كلامه حقيقة، بطلت حجتكم على المعتزلة؛ فإن أعظم حجتكم عليهم قولكم: إنه يمتنع أن يكون متكلمًا بكلام يخلقه في غيره، كما يمتنع أن يعلم بعلم قائم بغيره، وأن يقدر بقدرة قائمة بغيره، وأن يريد بإرادة قائمة بغيره، وإن قلتم: هي كلام مجازًا، لزم أن يكون الكلام حقيقة في المعنى مجازًا في اللفظ، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات. والصنف الثالث: الذين لم يمنعوا المقدمتين، ولكن استفسروهم وبينوا أن هذا لا يستلزم صحة قولكم، بل قالوا: إن قلتم: إن الحرف والصوت محدث بمعنى أنه يجب أن يكون مخلوقًا منه منفصلا عنه، فهذا دليل على فساد قولكم وتناقضه، وهذا قول ممنوع، وإن قلتم: بمعنى أنه لا يكون قديمًا، فهو مُسلَّم، لكن هذه التسمية محدثة. وهؤلاء صنفان: صنف قالوا: إن المحدث هو المخلوق المنفصل عنه، فإذا قلنا: الحرف والصوت لا يكون إلا محدثًا، كان بمنزلة قولنا: لا يكون إلا مخلوقًا، وحينئذ فيكون هذا المعتزلي أبطل قوله / بقوله،حيث زعم أنه يتكلم بحرف وصوت مخلوق، ثم استدل على ذلك بما يقتضى أنه يتكلم، لا يتكلم بكلام مخلوق فيه تلبيس. ونحن لا نقول: كلم موسى بكلام قديم ولا بكلام مخلوق، بل هو ـ سبحانه ـ يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء،كما أنه ـ سبحانه وتعالى ـ خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه ـ سبحانه ـ استوى إلى السماء وهي دخان، وأنه ـ سبحانه ـ يأتي في ظُلَل من الغمام والملائكة، كما قال: يبين الله ـ سبحانه ـ أنه إذا شاء فعل ما أخبر عنه من تكليمه وأفعاله القائمة بنفسه، وما كان قائمًا بنفسه هو كلامه لا كلام غيره. والمخلوق لا يكون قائمًا بالخالق، ولا يكون الرب محلا للمخلوقات، بل هو ـ سبحانه ـ يقوم به ما شاء من كلماته وأفعاله، وليس من ذلك شيء مخلوقًا، إنما المخلوق ما كان بائنًا عنه، وكلام الله من الله ليس ببائن منه؛ ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ، / وإليه يعود. فقالوا: منه بدأ، أي: هو المتكلم به، لا أنه خلقه في بعض الأجسام المخلوقة. وهذا الجواب هو جواب أئمة أهل الحديث والتصوف والفقه وطوائف من أهل الكلام من أئمتهم، من الهشامية، والكرامية، وغيرهم. وأتباع الأئمة الأربعـة ـ أصـحاب أبي حنيفة،ومالـك، والشافعي، وأحمد ـ منهم من يختار جواب الصنف الأول، وهم الذين يرتضون قول ابن كلاب في القرآن، وهم طوائف من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبـي حنيفة. ومنهم من يختار جواب الصنف الثاني، وهم الطوائف الذين ينكرون قول ابن كلاب ويقولون: إن القرآن قديم، كالسالمية، وطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحـمد وأبـي حنيفة. ومنهم من يختار جــواب الطائفة الثالـثة، وهــم الذين ينكــرون قول الطائفتين المتقدمتين الكلابية والسالمية. ثم من هؤلاء من يقول بقول الكرامية ـ والكرامية ينتسبون إلى أبي حنيفة - ومنهم من لا يختار قول الكرامية ـ أيضًا ـ لما فيه من تناقض آخر، بل يقول بقول أئمة الحديث، كالبخاري، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة،ومـن قبلهم من السلف،/ كأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام،ومحمد بـن كعب القرظي، والزهـري، وعـبد الله بـن المبارك،وأحـمد بـن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وما نقل من ذلك عن الصحابة والتابعين. وفي ذلك آثار كثيرة معروفة في كتب السنن والآثار تضيق عنها هذه الورقة. وبين الأصناف الثلاثة منازعات ودقائق تضيق عنها هذه الورقة، وقد بسطنا الكلام عليها في مواضع وبينا حقيقة كل قول، وما هو القول الصواب في صريح المعقول وصحيح المنقول، لكن هؤلاء الطوائف كلهم متفقون على تضليل من يقول: إن كلام الله مخلوق. والأمة متفقة على أن من قال: إن كلام الله مخلوق، لم يكلم موسى تكليمًا، يستتاب، فإن تاب وإلا يقتل. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
/ فأجاب: القائل الذي قال: إن الله كلم موسى تكليمًا ـ كما أخبر في كتابه ـ مصيب، وأما الذي قال: كلم الله موسى بواسطة فهذا ضال مخطئ، بل قد نص الأئمة على أن من قال ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن هذا الكلام إنكار لما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، ولما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع. قال الله تعالى: إلى قوله: / والأحاديث بذلك كثيرة في الصحيحين والسنن، وفي الحديث المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث: (التقى آدم وموسى، قال آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليمًا، لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه). وسلف الأمة وأئمتها كفروا الجهمية، الذين قالوا: إن الله خلق كلامًا في بعض الأجسام، سمعه موسى، وفسر التكليم بذلك. وأما قوله: (إن الله كتب التوراة بيده) فهذا قد روي في الصحيحين فمن أنكر ذلك فهو مخطئ ضال، وإذا أنكره بعد معرفة الحديث الصحيح يستحق العقوبة، وأما قوله: [ناولها بيده إلى يده] فهذا مأثور عن طائفة من التابعين، وهو هكذا عند أهل الكتاب، لكن لا أعلم غير هذا اللفظ مأثورًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمتكلم به إن أراد ما يخالف ذلك فقد أخطأ، والله أعلم.
|